الرموز في شعر بدر شاكر السياب

الرموز في شعر بدر شاكر السياب

حفظ الرحمان

الرمز هو الإشارة أو الكلام الخفي لا يكاد يفهم بشكل عام، وهو طريق من طرق الدلالة لأنه يساعد على البيان والإفصاح. وأما بالمعنى الخاص فيطلق الرمز على اللفظ القليل المشتمل على معان كثيرة، وكذلك يدل على اللفظ الدال على ما وراء المعنى الظاهر مع اعتبار المعنى الظاهر أيضا. وعلى هذا يخرج الرمز من معناه اللغوي إلى مصطلح أدبي. حيث أشار إليه ابن رشيق أن الإشارة هي في كل نوع من الكلام لمحة دالة واختصار وتلويح يعرف مجملا ومعناه بعيد من ظاهر لفظه.

 وقد أنكر بعض المؤرخين بأن الرمز لم يكن موجودا في العصور الغابرة في تاريخ الأدب العربي، ولكن الأمر الحقيقي هو أن الرمز كان موجودا وحتى لدى الشعراء الجاهليين. والدليل على ذلك أن لغة الكهان في الجاهلية كانت تعتمد على المواربة والرمز والإبهام والاستغلاق حتى تتحقق الغاية منها وهي التأثير في قلوب طلاب الأسرار والغيوب. وكما يرى الدكتور نجيب البهبيتي أن جميع أنواع الغزل الذي كان الشاعر الجاهلي يقدم به لقصائده من باب الرمز. ومهما يكن الأمر فإن العرب كانوا يستخدمون الرمز فقد رمزوا إلى الأعداء بالذئب وإلى الفلاة بالناقة الحمراء وإلى الجبل بالجمل الأصهب. ثم اقتفاهم الشعراء في العصرين بعده أعني العصر الإسلامي والعصر العباسي. ولكن الرمز في العصر الحديث يختلف تماما عن العصور السابقة. لأنه أصبح اليوم ظاهرة فنية أساسية من ظواهر القصيدة الحديثة، وأدخل تغييرا كبيرا من حيث الشكل والمضمون في الشعر العربي. والذي بدأ انتشاره في الثلاثينيات من القرن العشرين.

الحركة الرمزية في الشعر العربي الحديث:

لم يظهر الاتجاه الرمزي في الشعر العربي الحديث إلا بعد عام 1936م.  وذلك حين أخذ الشعراء اللبنانيون يخرجون على الطريقة المألوفة في قرض الشعر من حيث المعنى والمبنى. ولعل أشهر دعاة هذا الاتجاه هو الشاعر ” أديب مظهر” الذي يعد أول شاعر لبناني تأثر بالمدرسة الرمزية بواسطة الشاعر الفرنسي ” البير سامان” وأطل على عالم الشعر العربي الحديث في لبنان، ومن أشهر قصائده ” نشيد الكون” و”نشيد الخلود” اللتان يبدأ بهما عهد الرمزية في الشعراللبناني خاصة وفي الشعر العربي الحديث عامة.

الرمز في الشعر العراقي الحديث:

ظهرت ملامح الدعوة إلى الرمز في العراق خلال الحرب الثانية العالمية للخروج من التقليد الجامد الذي ساد الشعر العراقي منذ زمن طويل. وبدت هذه الملامح التجديدية في العراق منذ عام 1941م بصورة واضحة. والسبب في ذلك يرجع إلى ازدياد الروافد الثقافية بالإضافة إلى السبب السياسي الذي يعد أهم الأسباب في نشوء الرمز في الشعر العراقي. كما صرح بذلك بدر شاكر السياب ” نشأ الرمز في العراق وكان السبب سياسيا محضا، ولقد كنا نحاول في العهد الملكي ( زمن الملك نوري السعيد) أن نهاجم هذا النظام ولكننا كنا نخشى أن نهاجمه بصراح، فكنا نلجأ إلى الرمز تعبيرا عن ثورتنا عليه ثم شاع الرمز بصورة أعمق، ربما ولأغراض غير سياسية لأن الأغراض السياسية أغراض مؤقتة”.

يعد الشاعر يعقوب بلبول أول من اتخذ من الرمزية مذهبا في التعبير عن المشاعر حين نشر القصائد عام 1941م. وشاع الرمز فيما بعد في الشعر العراقي وسار الشعراء على هذا النهج واستعملوا طريقته في التعبير عن أفكارهم السياسية. ومن أبرزهم محمد مهدي الجواهري وصفاء الحيدري وبدر شاكر السياب و حميد سعيد و علي جعفر العلاق وعبد الأمير معلة وعبد الرزاق عبد الواحد وحسب الشيخ جعفر. ومن أشهر القصائد الرمزية قصيدة ” أنتم فكرتي” و” سواستبول” و” على قارعة الطريق” و ” الجزائر”. وقد استخدم فيها أصحابها رمز الأب لطلائع المجتمع والغابة للأحزاب والشمس للثورة والمسيح للاستقامة والعرش لعرش بغداد والفاجرة لفرنسا ويشوع بن نون والغراب الناعق لليل الأخير من العهد الملكي والنسر للحرية.

بدر شاكرالسياب ومساهماته في الشعر الرمزي:

حياته العامة:

بدر شاكر السياب شاعر عراقي شهير، ولد في قرية جيكور في جنوب العراق سنة 1926م. ولما بلغ السياب السادسة من عمره لبت أمه نداء المنية. وتزوج أبوه من امرأة أخرى، فأثر هذا الحادث كثيرا في نفسية الشاعر وشخصيته.

أكمل بدر دراسته الابتدائية عام 1938م، ورحل إلى البصرة لمواصلة الدراسة الثانوية، ولكن كان قلبه معلق بجيكور التي كانت ملعب طفولته ومجر أذياله ومسكن حبيبته وفيقة. وسافر بدر بعد تخرجه إلى بغداد، والتحق بقسم اللغة العربية بدار المعلمين، وتعرف هنا على نازك الملائكة سنة 1946م، وأخذ يزورها فينة بعد أخرى فيناقشان في القضايا الأدبية وفي الشعر خاصة. تخرج السياب من الكلية عام 1948م، وعين مدرسا للغة الإنجليزية في ثانوية الرمادي.

وقد قرأ السياب أثناء دراسته في المراحل والدورات المختلفة من الأدب العربي الحديث شعر إلياس أبو شبكة وعلي محمود طه، ومن الآداب الأجنبية مؤلفات شكسبير وبايرون ووردزورث وشيلي وكيتس وإليوت وأعجب به إعجابا شديدا. وقرأ من الأدب الفرنسي عن طريق الشعر المترجم بودلير ولامرتين. وبالرغم من ذلك ظل البدر محافظا لمطالعة التراث العربي كأمثال ابن الرومي ومهيار الديلمي والمتنبي والبحتري وأبي تمام وكان يحفظ أشعارهم. كما تعرف على الينابيع الفكرية والفلسفية من الماركسية والشيوعية. وسجن لشيوعيته 1948م.

زار بدر مسقط رأسه جيكور وديار حبيبته وفيقة سنة 1961م، فأثارت هذه الزيارة حشدا من الذكريات الكامنة في قلبه، والتي أدت إلى إنتاج عدد من القصائد أعطته الخلود. وأصاب بدر في آخر عمره من الشلل في نصفه الأسفل، وظل يتنقل بين بيروت وبغداد وباريس ولندن من أجل العلاج حتى توفي سنة 1964م.

حياته الشعرية

أولع بدر بالشعر منذ الصغر حيث بدأ قرض الشعر وتنظيمه أولا بالعامية ثم بالفصحى. فكتب شعرا وطنيا بالإضافة إلى قصيدة وصف فيها معركة القادسية. وبدأ قرضه بانتظام منذ عام 1941م. وخاصة بعد أن انهزمت قوات الثورة في العراق في الحرب العراقية البريطانية في نفس السنة، وتم إعدام قادة الثورة. فلم يتمالك بدر على نفسه وهو ابن الخمسة عشر، فانفعل هذه الحادثة شديدا، ولجأ للتعبرعن انفعالاته إلى اللغة الشعرية قائلا:

رجـــــال أباة عاهــــدوا الله أنهم      مضحون حتى يرجع الحق غاصبه

راق عــــبيد الإنجلـــــيز دماءهم      فـــــيا ويلهم ممن تخـــــاف جوالبه

يعد السياب رائد الشعر الحر الذي بدأ سنة 1948م وهو أول أضلاع مثلث الشعر الحر الذي أكملته نازك الملائكة ثم عبد الوهاب البياتي. واستطاع هذا الشاعر أن يخرج الشعر العربي من ساحة الرومنطقية الذهنية الفردية إلى انبعاث جديد يتناول معالجة الأوضاع الاجتماعية والواقعية والكفاح ضد الاستعمار والتفسح الاجتماعي في بلاده. وأعاد ربط القصائد العربية بقضية الجماهير عن طريق كثير من تفاصيل الحياة اليومية التي تتحول إلى رموز ذات أبعاد ودلالات.

الرمز عند بدر شاكر السياب

لم يكن السياب أول شاعر عربي معاصر استخدم الرمز في شعره ولكنه جعله مركزا هاما في شعره حتى فاق الآخرين في القدرة على الاختيار وفي طريقة الاستخدام بسبب نشوئه في أزمات وتقلبات نفسية وجسمية وبسبب التغييرات العنيفة في الواحة السياسية بالعراق وانتشار الفوضى والهرج والمرج في مجتمعه.

وقد طور السياب نفسه كثيرا في كيفية استخدام الرمز ابتداء من اتخاذها نماذج موضحة إلى بناء القصيدة كلها على الرمز الواحد كما في قصيدة ” يأجوج ومأجوج” و ” المومس العمياء” و ” المسيح بعد الصلب”. وقد قويت سيطرة رمز البعث عنده لأنه على المستوى الفردي كان يحس بأن لا شيء سواه يعينه على مواجهة الموت كما توجد في قصائده ” مدينة بلا مطر” و ” النهر والموت” و” أنشودة المطر”. ويستخدم الشاعر كلمة مطر رمزا للخصب ورمزا للثورة على الظلم السياسي والاجتماعي الذي كان العراق يعانيه ورمزا للحياة والانبعاث وكذلك رمزا للموت محاولا في هذا الجمع بين الموت والحياة أن يجعل المأساة تبدو أكثر هولا وأعمق دلالة، لتعبر عن تطلعات المضتهدين والجياع والعراة والمقهورين على امتداد الساحة الإنسانية. وهو يستخدم الرموز من بيئات وديانات مختلفة من المسيحية والإسلام والتاريخ العربي والإغريقي والبابلي وحتى من بلدان الشرق الأوسط. ولجأ السياب إلى الرموز لأنه وجدها كمسرح يجسد آمال الإنسان ومخاوفه، وحاول من خلال ذلك أن ينقل إلى أعماق النفس البشرية مجسدا كل طموحاتها ورغباتها ومشاكلها مستعينا بكل ما كان في الرموز من ملامح غنية ذات صور شعرية موحية.

الرموز أكثر استخداما عند السياب:

ومن أشهر الرموز التي يستخدمها السياب في قصائده رموز البعث و التجدد وأورفيوس و أورديسة وتموز و عشتار والمسيح ( رموز البعث والتجديد) وأوديس وسندباد وإيكار (رموز جوابة) وسيزيف وبرسفون وسافو ولسبوس وفاوست وميدوزا وطروادة (رموز الألام والعذاب) وجيكور وبويب والماء ووفيقة (الرموز الشخصية والموت والانبعاث) والمسيح وسيزيف وقناع تموز وقناع أيوب (رموز الأقنعة).

أنواع الرموز والأسطورة عند السياب:

(1) الرموز الدينية والقرآنية:

أكثر السياب في استخدام الشخصيات والقصص القرآنية في أشعاره. ويرمز بها على الشخصيات والحوادث والوقائع في عصره وكذلك للأحوال والظروف والمأسات والكوارث والآلام والمصائب التي يتعرض لها الشاعر نفسه والإنسانية كافة حينا بعد حين. وقصائده مفعمة بهذه الرموز الدينية والقرآنية مثل قصيدة المخبر والمومس العمياء وحفار القبور وفجر السلام و المسيح بعد الصلب والعودة لجيكور وبور سعيد وخلا البيت وسفر أيوب والنبوة الزائفة وليلة القدر ومولد المختار وأمام باب الله. فهو يستخدم كلمة آدم وجنان الخلد وقصة خروج الأبوين من الجنة وقصة قابيل وهابيل وأيوب وقصته والمسيح وقصته و محمد وقصته ويأجوج ومأجوج وإرم وعاد وغير ذلك من الشخصيات والقصص.

فعلى سبيل المثال يستخدم الشاعر بدر قصة خروج الأبوين آدم وحواء من الجنة رمزا لخروجه وطرده من مدينة جيكور التي عاش فيها السياب أجمل حياته. ويتأمل أن خروجه من جيكور هو بسبب ما اكتسبته أياديه ويحاول أن يرمز إلى حاله بحال آدم حين خرج من الفردوس وابتعد من المكان المحبب فهو الآن يعيش حياة تعسة ومضنية. حيث يقول:

يصـرخ آدم المدفون في، رضيــت بالعار

بطردي من جنان الخلد أركض إثر حواء

وكذلك يستخدم الشاعر قصة هابيل وقابيل رمزا للخير والشر في العلاقات الإنسانية سواء كانت ثنائية أو بين شخص وآخر أو بين طائفة وأخرى، فهو يرمز دوما بـ قابيل إلى الجاني والظالم والقاتل والغادر، وبـ هابيل إلى الحق والعدل والمظلوم والمضطهد والضحية. ويشير بها إلى العدوان الذي ما زال يؤجج النار بين البشر، والصراع بشكل الحرب أو بشكل الصراع السياسي بين أحزاب الوطن الواحد. حيث يقول:

أريت قافلة الضياع ؟ أما رأيت النازحين

الحاملين على الكواهل، من مجاعات السنين

أثار كل الخاطئين

النازفين بلا دماء

السائرين إلى الوراء

كي يدفنوا هابيل وهو على الصليب ركام طين؟

قابيل أين أخوك؟ أين أخوك؟

جمعت السماء

آمادها لتصيح، كورت النجوم إلى نداء

قابيل أين أخوك؟ أين أخوك؟

يرقد في خيام اللاجئين

وفي قصيدة المخبر يرمز السياب إلى شخصية لا أخلاقية تتنافى مع السلوك الطبيعي والإيجابي للإنسان، إذ أنها تتجسس على الناس لأجل منافعها وتساعد الغواة الظالمين على قتل الأبرياء كما فعل قابيل بأخيه، فهو يقول:

قوتي وقوت بني، لحم آدمي أو عظام

فليحقدن علي كالحمم المستعرة الأنام

كي لا يكونوا إخوة لي آنذاك ولا أكون

وريث قابيل اللعين، سيسألون

عن القتيل فلا أقول

أأنا الموكل ويلكم بأخي؟ فإن المخبرين

بالآخرين موكلون

هكذا نرى السياب يستلهم قصة ابني آدم قابيل وهابيل ويرمز بهما للجانب البشع والشنيع من حياة البشر من جهة ، وللجانب الطيب والمضطهد من جهة أخرى، كما في قصائده ” مدينة السندباد” و” قارئ الدم” و” قافلة الضياع” و” سفر أيوب” و” حفار القبور”. وكذلك يستخدم السياب رمز أيوب رمزا للصبرعلى البلاء والإيمان في المحن والرضا التام بقضاء الله، والمسيح للدلالة على معجزة البعث والإحياء وشفاء الموتى في قصائده ” شناشيل ابنة الجلبي” و ” رؤيا عام 1956م”. وفي قصيدة ” المومس العمياء” يأخذ الشاعر قصة يأجوج ومأجوج وذي القرنين وخاصة قصة جعل السد رمزا للصلابة والقوة، فيقول:

سور كهذا حدثوها عنه في قصص الطفولة

ياجوج يغرز فيه من حنق أظافره الطويلة

ويعض جندله الأصم وكف ماجوج الثقيلة

تهوي كأعنف مت تكون على جلامده الضخام

والسور باق لا يثل وسوف يبقى ألف عام

لكن إن شاء الإله

طفلا كذلك سمياه

سيهب ذات ضحى ويقلع ذلك السور الكبير

فلا شك في أن السياب يرمز بهذا الطفل الذي سيولد ويحطم السور إلى حلول وعد الله الذي تشير له الأية ” قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا”.

(2) الرموز الأسطورية:

استخدم الشعراء المعاصرون الأساطير القديمة في قصائدهم للترميز على حادث ما أو شخصية ما، وفي صدر هذه القائمة بدر شاكر السياب الذي استخدم الأساطير رموزا في أشعاره بصورة لم يستخدمها شاعر آخر. يشير بدر بعض الأحيان إلى الرموز مباشرة و حينا آخر يرمز إلى بعض خصائصها. ومن هذه الأساطير التي استخدمها السياب بكثرة أسطورة عشتار وأسطورة تموز وأسطورة سربوروس وأسطورة السندباد وأسطورة أورفيوس وأسطورة أدونيس وما إلى ذلك. وسآخذ بعضا منها على سبيل المثال.

1 – أسطورة عشتار:

عشتار هي إلهة الخصب أو الأم الأسطوري وهي عاشقة لتموز في الأسطورة البابلية التي تعتبر رمزا لإعادة الحياة إلى الأرض، فالشاعر يستخدم هذه الإلهة أو بعض أوصافها رمزا لإعادة الخصب والحياة في بلاده مرة أخرى، فيقول في قصيدة ” أنشودة المطر”.

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتا راح ينأى عنهما القمر

عيناك حين تبسمان تورق الكروم

وترقص الأضاء كالأقماار في نهر

يرجه المجذاف وهنا ساعة السحر

كأنما تنبض في غوريهما النجوم

لم يستخدم بدر السياب في هذه الأبيات اسم الإلهة مباشرة ولكنه يشير إلى صفات تختص بهذه الإلهة، وهي إعادة الانتعاش والخصب والحياة إلى الأرض.

2– أسطورة التموز:

 تموزهو إله الخير و رمز للخصب والإخضرار وإعادة الحياة، ولكن الشاعر يستخدم فقط الأوصاف والخصائص لهذه الأسطورة مثل أسطورة عشتار، ويشير بها إلى بعث الأمة وتحرير بلده العراق. كما يقول في قصيدة ” أنشودة المطر”.

وجيكور خضراء

مس الأصيل

ذرى النخل فيها

بشمس حزينة

ودربي إليها كومض البروق

بدا واختفى ثم عاد الضياء

فأذكاه حتى أنار المدينة

 

 3– أسطورة أدونيس:

أدونيس هو أيضا إله الخير والنعم، ولكن عندما أصيب الشاعر باليأس والخيبة من الظروف السائدة في مجتمعه قنط، فلا يرى الخصب والحياة إلا سرابا، كما يقول مخاطبا إله الخير.

أهذا أدونيس، وهذا الحواء؟

وهذا الشحوب، وهذا الجفاف؟

أهذا أدونيس؟ أين الضياء؟

أين القطاف؟

(3) الرموز من السيرة النبوية:

وقد استلهم السياب بعض رموزه من السيرة النبوية، ومن خلالها يسعى السياب أن يرسم خطوطا عريضة لحوادث العصور المختلفة ومعالجتها لقضايا الأجيال على مر العصور والأزمان كما في قصة غار حراء وثور. فهو يذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم في قصائده لتصوير حالة الانهيار والتصدع التي أصابت الأمة حيث جعلتها تسير خلف الأمم بعد أن كانت في الطليعة وذات حضارة راقية، فيقول:

هم التتار اقبلوا ففي المدى رعاف

وشمسنا دم وزدنا دم على الصحاف

محمد اليتيم احرقوه فالمساء

يضيء من حريقه وفارت الدماء

من قدميه من يديه من عيونه

واحرق الإله في جنونه

محمد النبي في حراء قيدوه

قمر النهار حيث سمروه

غدا سيصلب المسيح في العراق

ستأكل الكلاب من دم البراق

(4) الرموز بملامح غير دينية وقرآنية:

رغم أن السياب استدعى أكثر رموزه بملامح دينية وقرآنية قد لجأ إلى بعض الملامح غير القرآنية كصلب المسيح التي يعتقدها النصرانيون وكان ذلك بتأثير من التيارات الغربية الحديثة ونظرياتها في الرموز وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تسامح الشاعر مع سائر الأديان واحترامه لمعتقدات المتدينين بها مع حفظ ثقافته الإسلامية، فمعظم ملامح المسيح في شعرنا المعاصر مستمدة من الموروث المسيحي، وخصوصا الصليب والفداء والحياة من خلال الموت، ففي قصيدة ” المسيح بعد الصلب” يصور الشاعر المسيح بالمنقذ والمخلص والفادي نفسه لخلاص اللامة من تيهها وظلم سلاطينها، حيث يقول:

قلبي الشمس إذ تنبض الشمس نورا

قلبي الارض تنبض قمحا وزهراء وماء نميرا

قلبي الماء قلبي هو السنبل

موته العث يحيا بما ياكل

(5) الرموز من الطبيعة والأشياء الأخرى:

وقد استخدم السياب في أشعاره للرمز والإشارة إلى شىء غير الرموز الدينية والأسطورية، وهذه الرموز يستقيها الشاعر من الطبيعة والعناصر المتنوعة الموجودة في هذا الكون، وكل ذلك يدل على بؤسه وحرمانه وقنوطه من الدنيا، كما يتجلى من خلالها بصيص من الأمل على الحياة وإصلاح الأمة والإنسانية قاطبة، ومن بين هذه الرموز التي ترددت في ديوانه كثيرا الموت والبعث، وجيكور( مسقط رأس الشاعر) وبويب ( النهر الذي يجري قرب منازل أهله وذويه) ووفيقة (ابنة عم الشاعر وحبيبته). فكان يرمز إلى قوى الخير والحياة والخصب برموز كالمطر والنور ونهر بويب وقريته جيكور، كما كان يرمز إلى قوى الشر والموت والجدب بالنار والذهب والصخر والظلام والمدينة. وكذلك يستخدم بعض الأحيان الدفئ رمزا للحياة أو الراحة والبرد رمزا للموت أو عدم الراحة والأفاعي رمزا لنهب قوت الفلاحين.

ولكن المطر أكثر السياب ترديده في أشعاره للترميز إلى أشياء مختلفة فهو رمز للخير والحب والحياة والخصب والثورة معا، كما يقول النقاد أن لكلمة ” مطر” عند السياب تفسيرات عديدة فيرى لويس عوض أن المطر هو رمز للثورة والجوع، وذهب محمد إسماعيل أسعد أنه مرادف للخصب والنماء، وأما عبد الجبار البصري ففي رأيه أنه رمز للثورة. ولكن معظم النقاد يميلون إلى أن المطر يستخدمه السياب رمزا للحياة والموت معا. ولعله من أكثر الرموز استخداما عند السياب حتى سمي شاعر المطر، فيقول السياب:

جاء زمان كان فيه البشر

يغدون من ابنائهم إلى الجحيم

يا رب عطشى نحن هات المطر

والعطاشي منه رمز الشجر

هو يقول هنا للإنسان العربي أن عطشه إلى التحرر لن يتم دون تقديم الضحايا لأن الإنسان في الزمن القديم كان إذا يتعرض للجدب أو السنين يقوم بتقديم الأضاحي البشرية رغبة في استنزال المطر. ويقول أيضا:

فالغلال التي يسكبها تحصدها الغربان والجراد

ومنذ أن كنا صغارا كانت السماء

تغيم في الشتاء

ويهطل المطر

وكل عام حين يعشب الثرى

ما مر عام والعراق ليس فيه جوع

فهو يقول أن المطر رمز للخصب ولكن الخصب لا نفع فيه مع وجود الظلم لذلك لم يثمر المطر في العراق إلا الجوع. ويقول متطلعا إلى الثورة في قصيدة ” مدينة السندباد”:

صرخت في الشتاء

أقض يا مطر

مضاجع العظام والثلوج والهباء

مضاجع الحجر

وأنبت البذور ولتفتح الزهر

وأحرق البيادر العقيم بالبروق

وفجر العروق

وأثقل الشجر

وجئت يا مطر

خلاصة القول:

اتضح لنا من التفاصيل التي سلف ذكرها أن الرموز كانت موجودة في أشكالها المختلفة في العصر الجاهلي وفيما بعد. ولكنها لمعت شمسها على أفق الشعر العربي الحديث كحركة تجديدية في الشعر العربي، وتطورت في الثلاثينيات من القرن العشرين، وقطعت مسافة بعيدة من بلاد الشام إلى أن وصلت العراق، ونالت من حظها لدى السياب وزملائه مالم تنل عند الآخرين فنمت وازدهرت في أراضيها الخصبة. وذلك لأن حياة السياب كانت مليئة بالحزن والأسى كما شهد زمن التقلبات السياسية والاشتباكات الطائفية والحروب الأهلية وعانى الملابسات العائلية المحرجة، فأثرت هذه الأشياء في أشعاره كثيرا، حتى صقل مواهبه في قرض الشعر واستخدام الرموز في أشعاره وفاق على أقرانه في هذا المجال.

Leave a comment