في زوبعة الشوق والهدف

في زوبعة الشوق والهدف

حفظ الرحمان

قد صدق من قال: “إن السفر و الترحال من مأوى الفرح و الأسى”. لأن المرء يسافر لبعض مصالح الحياة و ينجح في مرامه المنشود، فيكون له من دواعي الغبطة والسرور،ولكن حينما يخلف الأهل والأولاد ويسود قلبه الحزن والأسى، ويأخذه وحشة المكان ومرحلة السفر مع مصائبه وآلامه تهدده،حتى تذرف الدموع من العيون و ترقّ القلوب القاسية، فربّما يضطرّ الإنسان إلى تأجيل موعد السفر وربّما يصرف عن إرادته للسفر…  

كما حدث معي، حينما ناهزت العاشرة من العمر، وأكملت الدراسة للمرحلة الابتدائية في قريتي تحت رعاية والديّ الحنون بكامل المحبة والشفقة… حيث كنت أرتع وألعب مع الزملاء في الدروس والأصدقاء بين الحقول الخضراء والحدائق الباسقة الأغصان من غير مبال أي شيء.

إذ ذات ليلة عندما آويت الفراش، أعرب والدي عن رغبته وأمله في مواصلة الدراسة العليا والتحاقي بإحدى المدارس الواقعة في مدينة دلهي عاصمة الهند العريقة. و قال يا بني! إني أريد أن تلتحق بإحدى المدارس الواقعة في مدينة دلهي، فانظر ماذا ترى؟. فلزمت الصمت وأجبت طوعا وكرها في الإيجاب.

فلا تسألوا بعد ذلك عن أحوالي، تكالبت علي الهموم والغموم، ونسجت الأحزان والآلام أشواكها على القلب، وأخذت الأسئلة المختلفة تتسرب إلى الذهن، كيف أعيش هناك؟ وكيف يكون الناس هناك؟ وما مأكلهم ومشربهم؟ وما سلوكهم وعاداتهم؟ كما لا أفتأ أذكر صحبة الزملاء والأصدقاء وحب الأبوين والأقارب، والجري بين الحقول الخضراء واللعب في الحدائق ذات أشجار عالية باسقة الأغصان وفي ضفة النهروالترعة، فمرة أرفض السفر في عالم الأحلام قائلا: قريتي حياتي ومسكني، وأجمل في العالم كله، طابت لي هواء وساغت لي حياة، فلن أغادرها أبدا… ومرة أعود إلى إرادة السفر نظرا إلى الحياة المستقبلية والدراسة العليا. 

فبينما كنت في الرفض وإرادة السفر، وفي زوبعة الحنين إلى الوطن والهدف النبيل، إذ آنت الآونة و تحلق على رأسي موعد السفر تحلق ذوات المخالب على الأفراخ، فاستعددت عبوسا ومشمئزا، و شمرت إزاري للسفر بالعيون المغرورقة، وودعت الأقارب والأهل باكين، والزملاء والأصدقاء محزونين، والأشجار والأزهار مزبلة، والأنهاروالترعات مجففة، والقرية ودروبها مخربة … فيا لها من ملمة السفر! ويا لها من محبة الحضر!    

ووصلت محطة القطار الواقعة في مدينة “بستي” – هذه المحطة ليست بأكبر ولاأصغر، ولكنها معروفة بين الناس، وأما بالنسة لي فهي أجمل وأروع أكثر مما كنت أتصوره – فعلى كل حال، أخذت أنتظر القطار بين الفرح و الذعر، لأنني ما رأيت القطار قبله قط، وسأشاهده اليوم، وأما الذعرو الخوف فكان بسبب مشاقة السفر وأهواله… وبعد مضي ثلاث ساعات صفر القطار فأخذت الأهبة للركوب، بأرجل مرتعشة ونبضات سريعة لقلب بئيس، حتى ركبته مع الراكبين، وأخذت مقعدي المحجوز عند النوافذ مع تراكم الأحزان والأسى، مهيما في أودية الأفكار والخيالات المتنوعة… وأخذ القطار يجري على ما سرعته، حتى توارت الشمس في الحجاب، وظهر الشفق في الأفق الغربي، والأشجار والحقول الخضراء مع السحاب المتغيمة، وشيئا فشيئا أسدل الليل ستاره على الكون، وخشعت الكائنات، وراح كل شيئ في سبات، فاشتد حزني وبثي وخيمت علي الهواجس والمصائب لأن المسافرين جميعهم كانوا في سبات عميق، ولا يزال يرتفع شخيرهم المخيف…

ولكن بعد فترة قليلة، رحم الله على عبده هذا، وبزغ القمر بأنواره الضئيلة ، وهبت الريح، وتمايلت أغصان الأشجار بعضها إلى بعض كأنها تعتنق، وتصفق أوراقها مع زئير الرياح وصفيرها كأنها سكارى، فجعل المطر ينزل رذاذا كأنه أشعة البدر المنير في الليالي المقمرة، ثم صار غزيرا….فيا لها من أجمل الفضاء … وأبهى المنظر الذي شاهدته اليوم، صارت الأحزان منسيا، وامتلأ القلب فرحا وسرورا، وذهب الهموم والغموم أدراج الرياح… فلما انقطع المطر صار الجو معتدلا، وبدت قطرات المطر على الأغصان والأزهار كاللآلي المتألقة في هذه الليلة المقمرة، فمن لا يعجب بهذا المنظر الجميل، ومن لا يأسر قلبه هذا الطقس النبيل، ومن لا يولع بأبهى المناظر الطبيعية، فكل من الحيوان سوى الإنسان فتح أبوابه وخرج من بيته و حتى الكلاب من مسكنها والأفاعي والحشرات من جحرها والأسود من عرينها والطيور من عششها استفادة بروعته ولطفه، واستغلالا بطيبه وبهيه، حيث انتشر في الفضاء زقزقة العصافير وعواء الذئاب ونباح الكلاب وخوار الثيران وثغاء الأغنام وهديل الحمام ونقيق الضفادع وصفير الجنادب… فأطلقت عنان الأفكار تفد إلى الذهن، وبينما كنت أصغي إلى هذه الأصوات، وأغوص في بحر الأفكار والتخيلات بصنع الله وخلقته، والقطار يجري على ما سرعته بين الحقول والمدن والأرياف … إذ انحسر نقاب الليل في الأفق الشرقي عن ضوء خافت، وظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وصاحت الديك وجلجل صوت المؤذن في الفضاء الهادئ، يدعو به الناس إلى الصلاة، فخرجت من عالم الأحلام والتخيلات ولمع في عيني بريق من الأمل، وظننت أن القطار على وشك الوصول إلى محطة “دلهي”، والسفر على قرب الانتهاء.

وما إن مضت ساعة أو ساعتان حتى وصل القطار حاملا ركابه وبضائعه إلى الرصيف – وكانت الشمس تنشر أشعتها في الكون ويطل قرصها من مطلعها – ونزلت ووجدت أبناء عمي منتظرين في الصفوف، بكل شوق والمحبة، فلا تسألوا عن فرحهم وبهجتهم حينما رأوني، كانوا أكثر فرحا مما كنت بلقائهم، فاعتنقوا بالحرارة وهنئوني بالقدوم، ثم استأجرنا التاكسي ووصلنا إلى بيت عمي الواقع في “شاهين باغ”، وحييت الجميع بتحية السلام، فصاروا فرحين مسرورين برؤيتي، وجرى الحوار بيني وبينهم بعد الفراغ من الاستحمام، ونبأتهم عن أحوال الأسرة والأقرباء، وقصصت لهم قصة السفر ومشاقته وأهواله التي كنت أتصورها قبل الرحلة…

وأما الآن فنسيت كلها، وتركتها على مكانها، وجعلت أعيش بكل أمن وأمان، فلم يخطر ببالي قط أنني قد تركت أسرتي وحبها وقريتي ودروبها، والحقول وخضرها … وكل شيئ لا يزال يجري على مداره وأصوله، حتى الشمس لمستقر لها والقمر امتثالا لأمر ربه، إلى أن تم التحاقي بإحدى المدارس الواقعة في هذه المدينة، وبدأت حياتي العلمية والدراسية بكل شوق ورغبة، وظللت أستفيد بتجارب الأساتذة البارعين في فنهم ومجالاتهم، ومازلت أساهم في النشاطات العلمية سواء كانت في المدرسة أوخارجها، كما قمت عدة مرات بزيارة الآثار التاريخية الكائنة في هذه المدينة العريقة من حيث الثقافة والحضارة منها : المسجد الجامع، والقلعة الحمراء، ومنارة قطب، والقلعة القديمة، وحديقة الحيوان وغيرها من الأماكن الشهيرة لدى الأوساط العلمية والزوار والسائحين …. فها هي الأثار التاريخية التي تنبئ لنا البيئة الإنسانية القديمة، وتحكي لنا بلسان الحال أحوال أبائنا وأجدادنا، وتوفر لنا معلومات جمة بثقافتهم وحضارتهم، فألتمس منكم الجميع أن تزوروا هذه الأثار التاريخية، لأن من لم يزر هذه الأثار لم ينل مقصد الحياة والعيش، ويحرم بخير كثير.

هذا، وبعد ذلك قد أصبح لي السفر من العادات الخلقية وصار من الضروريات اللازمة للحياة، فنورد في مكان صباحا ونرتحل منها مساء.

Leave a comment